عرضت مسرحية «أشوفك» التراثية الكوميدية الإماراتية، لفرقة أم القيوين المسرحية، تأليف إسماعيل عبدالله، وإخراج حسن رجب، ضمن مهرجان المسرح الخليجي، الذي أقيم في الرياض، وقدمت رؤيا وقراءة جريئة.
العمل يفتح أبواب الذاكرة على رموز تاريخية وشخصيات حقيقية، كانت عنواناً للشجاعة والتضحية والفداء. إنها مسرحية تسائل التاريخ، وتدعو متفرج اليوم لإمعان النظر بما سطرته الأجيال السابقة من تضحيات، وما أبدته من إرادة، لعلّ هذا المتفرج يتصالح مع هويته الأصيلة، في زمن التغريب والعولمة.
حكايات
«أشوفك» تجربة مسرحية وغنائية تراثية، تقدم حكايات أبطال من أبناء الصحراء، الذين تعلّموا ونحتوا الذات العربية، وتجرؤوا على رفض الظلم، وانتصروا للإنسان. والعمل، بحد ذاته، يمثّل رسالة متعددة المعاني، تكشف عن حقيقة أن المسرح مساحة للحرية، وفضاء لفتح كتب التاريخ، وإعادة قراءة التراث الشفوي والغنائي، فهو أداة لتفكيك الواقع وإعادة تركيبه، ومساحة للقاء.
تكشف حكاية العرض عن جرأة المؤلف. وكذلك عن مخرج يقرأ حركة التاريخ ويقدمها بصرياً، عبر فكرة أن الخوف من قول كلمة «لا»، سيؤدي بالقائل خلف الشمس. ولكن حينما تهكم المجانين في المسرحية على القوة المستعمرة، و«ألقت بهم خلف الشمس»، وجدوا أن الذهاب خلف الشمس ليس بالأمر السيئ، بل زادهم شرفاً وفخراً.
أيقونة وصرخة
من بعد ذلك، يتحدث كل مجنون عن سبب جنونه، فتجتمع الأسباب كلها خلف الخوف من قول كلمة «لا»، في موقف كانت فيه واجبة. هذه أيقونة وصرخة العرض، التي تم تقديمها عبر مزيج من الغناء والتمثيل والرقص، وبالاعتماد على تقنيات الإضاءة وأداء الممثل، وفيها نلمس دعوة للمصالحة بين الجيل الجديد مع تراثه، وكذلك مع الهوية والاعتزاز بها، لفتح أبواب الذاكرة على تراث الأجداد وحكاياتهم.
يندرج عرض «أشوفك»، المسرحي الغنائي، في إطار فن العيالة، وهو نوع من الفن الذي يحاكي قصص البطولات أو المواقف الشجاعة، وهو يحتاج إلى حنجرة قوية، تروي الأمجاد والمواقف المشرفة، فالعيّالة تعدّ سرداً للتاريخ. ويقوم هذا الفن على الأغنية التراثية، وكلمات شعرية تجمع بين الفصحى والعامية، تقدم في شكل جوقة.
اسم العرض «أشوفك»، جاء من الكلمة الرمز بين جميع الشخصيات، وهي مفتاح الدخول إلى العمل وتفكيك شيفراته. «أشوفك» بما تعنيه من وضوح الرؤية وانقشاع الضبابية، كانت الكلمة المنتشرة بين حراس الأبراج في العلاقة مع الغرباء. في بدء العرض، تدق الطبول لتعلن عن بدء الأحداث، ترتفع الحناجر بالغناء، ومنذ الباب يتم استقبال المتفرج بالترحيب. إنها دعوة مباشرة له، لأن يكون ضمن أحداث المسرحية. وثمة عزف مباشر على المسرح لإيقاعات تقليدية وموسيقى خليجية، ثم الموسيقى والأزياء، وسيادة اللون الأصفر، كلها تحيل مباشرة إلى بيئة الخليج العربي. فيما الملابس تحيل، بدورها، إلى فترة تاريخية معينة.
فضاء إخراجي
ترتفع الأهازيج الصحراوية، شخصيات تتحرك، تغني وترقص على إيقاعات تقليدية شعبية. وعناصر السينوغرافيا المسرحية، وأداء الممثل مع نص شاعري بنفس عربي ممتع، مقومات لتفكيك رسائل العمل، حيث يتغنى العرض بالتراث البدوي الصحراوي، ويقدم الأهازيج البحرية التراثية، وأغاني من الذاكرة الشعبية المنسية، يحييها كاتب النص إسماعيل عبدالله، ويبعث فيها المخرج حسن رجب الروح، ليتم تقديمها في إطار تمثيلي واحتفالي.
في العمل، نواجه فضاء إخراجياً، تمكن منه المخرج، حيث استطاع بحرفية عالية، تحويل الفعل إلى صورة تنطق. إنه لعب درامي، ميزته اللون الأصفر، كامتداد للصحراء، وارتباط وثيق بالهوية الجغرافية للمشرفين على العمل.
رسالة
المجانين، هم أنموذج لأبطال وضعوا قسراً في ذاك المكان المعزول، جميعهم أصحاب مواقف وكلهم كانت كلمة «لا»، السبب في دمارهم النفسي والعقلي. الشخصيات الخمس الرئيسة، دفعت «عقلها» ثمناً للشهامة والتمسك بالمبدأ، وجرناس الشخصية المسرحية مستلهمة من قصة واقعية لحارس ليلي، كان يستنهض الهمم ضد المستعمر. كان الصوت الرافض للواقع المفروض في النهاية يدعوهم إلى التمرد. يفتح أبواب المنفى المعزول، ويطلب من مجانينه استرداد العقل والتمرد على الظلم وإثبات الذات، وتلك هي رسالة المسرحية، استعادة الثقة في الهوية العربية، والإيمان بقدرة إنسانها على تجاوز الآخر الغربي بكل جديده، وتجديده.
ويضع المخرج في نهاية العرض أبطاله في المتحف، وهي إشارة لخلود الرمز، فهم، بالتالي، يتحركون ويعبرون عن روح الوطن، والإيمان بحتمية النصر والاستقلال، مهما كانت التضحيات.. عمل يمتلك حضوره ولغته العالية، واشتغال المخرج على الجوقة (المجاميع)، بصرياً وفكرياً.